حكاية علي بن بكار مع شمس النهار ( الجزء الثاني )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته متابعي مدونة ملاذ الحائرين هنا أهلا بكم وأسعد الله جميع أوقاتكم بكل خير وسعادة ونتمنى لكم وقتا ممتعا و شيقا مع قصصنا في مدونتكم فحللتم أهلا ونزلتم سهلا ... إلى القصة ...😊.
قد أسلفنا أن الخليفة هارون الرشيد حضر إلى شمس النهار بموكبه ، فقامت شمس النهار وجميع من عندها من الجواري ولا قينه في البستان وقبلن الأرض بين يديه ولم يزلن سائرات أمامه إلى أن جلس على السرير ومن في البستان من الجواري والخدم وقفوا حوله والشموع موقودة والآلات تضرب إلى أن أمرهم بالإنصراف والجلوس على الأسرة فجلست شمس النهار على السرير بجانب سرير الخليفة وصارت تحدثه، كل ذلك وأبو الحسن وعلي بن بكار ينظران ويسمعان والخليفة لم يرهما.
ثم إن الخليفة صار يلعب مع شمس النهار، وأمر بفتح القبة ففتحت وشرعوا طيقانها وأوقدوا الشموع حتى صار المكان وقت الظلام كالنهار، ثم إن الخدم صاروا ينقلون آلات المشروب فقال أبو الحسن: إن هذه الآلات والمشروب والتحف ما رأيت مثله وهذا شيء من أصناف الجواهر ما سمعت بمثله وقد خيل لي في المنام وقد اندهش عقلي وخفق قلبي، وأما علي بن بكار فإنه لما فارقته شمس النهار لم يزل مطروحاً على الأرض من شدة العشق فلما أفاق صار ينظر إلى هذه الفعال التي لا يوجد مثلها فقال لأبي الحسن: يا أخي أخشى أن ينظرنا الخليفة أو يعلم حالنا وأكثر خوفي عليك وأما أنا فإني أعلم نفسي من الهالكين وما سبب موتي إلا العشق والغرام وفرط الوجد والهيام ونرجو من الله الخلاص مما بلينا. و لم يزل علي بن بكار وأبو الحسن ينظران من الروشين إلى الخليفة وما هو فيه حتى تكاملت الحضرة بين يدي الخليفة، ثم إن الخليفة التفت إلى جارية من الجواري وقال: هات ما عندك يا غرام من السماع المطرب فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
وما وجد إعرابية بان أهلهـا ...
فحنت إلى بان الحجاز ورنده
إذا آنست ركباً تكفل شوقهـا ...
بنار قراه والدمـوع بـورده
بأعظم من وجدي بحبي وغنما ...
يرى أنني أذنبت ذنبـاً بـوده
فلما سمعت شمس النهار هذا الشعر وقعت مغشياً عليها من فوق الكرسي الذي كانت عليه وغابت عن الوجود فقام الجواري واحتملنها، فلما نظر علي بن بكار من الروشن وقع مغشياً عليه، فقال أبو الحسن: إن القضاء قسم الغرام بينكما بالتسوية، فبينما هما يتحدثان إذا بالجارية التي أطلعتها الروشن جاءتهما وقالت: يا أبا الحسن انهض أنت ورفيقك وانزلا فقد ضاقت علينا الدنيا وأنا خائفة أن يظهر أمرنا فقوما في هذه الساعة وإلا متنا. فقال أبو الحسن: فكيف ينهض معي هذا الغلام ولا قدرة له على النهوض؟ فصارت الجارية ترش ماء الورد على وجهه حتى أفاق فحمله أبو الحسن هو والجارية ونزلا به من الروشن ومشيا قليلاً، ثم فتحت الجارية بيدها فجاء زورق فيه إنسان يقذف فأطلعتهما الجارية في الزورق وقالت للذي في الزورق: أطلعهما في ذلك البر، فلما نزلا في الزورق وفارق البستان نظر علي بن بكار إلى القبة والبستان وودعهما بهذين البيتين:
مددت إلى التوديع كفـاً ضـعـيفة ...
وأخرى على الرمضاء تحت فؤادي
فلا كان هذا آخر الـعـهـد بـين ...
ولا كان هـذا الـزاد آخـر زادي
ثم إن الجارية قالت للملاح: أسرع بهما، فصار يقذف لأجل السرعة والجارية معهم ، إلى أن قطعوا ذلك الجانب وعدوا إلى البر الثاني، ثم انصرفت الجارية وودعتهما وطلعا في البر وقالت لهما: كان قصدي أن لا أفارقكما لكنني لا أقدر أن أسير إلى مكان غير هذا الموضع، ثم إن الجارية عادت وصار علي بن بكار مطروحاً بين يدي أبي الحسن لا يستطيع النهوض فقال له أبو الحسن: إن هذا المكان غير أمين ونخشى على أنفسنا من التلف في هذا المكان بسبب اللصوص وأولاد الحرام فقام علي بن بكار يتمشى قليلاً وهو لا يستطيع المشي، وكان أبو الحسن له في ذلك الجانب أصدقاء فقصد من يثق به ويركن إليه منهم فدق بابه فخرج إليه مسرعاً. فلما رآهما رحب بهما ودخل بهم إلى منزله وأجلسهما وتحدث معهما وسألهما أين كانا فقال أبو الحسن: قد خرجنا في هذا الوقت وقد أحوجنا إلى هذا الأمر إنسان عاملته في دراهم وبلغني أنه يريد السفر بمالي فخرجت في هذه الليلة وقصدته واستأنست برفيقي هذا علي بن بكار، وجئنا لعلنا ننظره فتوارى منا ولم نره وعدنا بلا شيء وشق علينا العودة في هذا الليل ولم نر لنا محلاً غير محلك فجئنا إليك على عوائدك الجميلة فرحب بهما واجتهد في إكرامهما وأقاما عنده بقية ليلتهما. فلما أصبح الصباح خرجا من عنده وما زالا يمشيان حتى وصلا إلى المدينة ودخلا وجازا على بيت إبي الحسن فحلف على صاحبه علي بن بكار وأدخله بيته فاضجعا على الفراش قليلاً، ثم أفاقا فأمر أبو الحسن غلمانه أن يفرشوا البيت فرشاً فاخراً ففعلوا، ثم إن أبا الحسن قال في نفسه: لا بد أن أؤانس هذا الغلام وأسليه عما هو فيه فإني أدرى بأمره، ثم إن علي بن بكار لما أفاق استدعى بماء فحضروا له الماء فقام وتوضأ وصلى ما فاته من الفروض في يومه وليلته وصار يسلي نفسه بالكلام.فلما رأى منه ذلك أبو الحسن تقدم إليه وقال: على الأليق بما أنت فيه أن تقيم عندي هذه الليلة لينشرح صدرك وينفرج ما بك من كرب الشوق وتتلاهى معنا، فقال علي بن بكار: أفعل يا أخي ما بدا لك فإني على كل حال غير ناج مما أصابني فاصنع ما أنت صانع، فقام أبو الحسن واستدعى غلمانه وأحضر أصحابه وأرسل إلى أرباب المغاني والآلات فحضروا وأقاموا على أكل وشرب وانشراح باقي اليوم إلى المساء ثم أوقدوا الشموع ودارت بينهم كؤوس المنادمة وطاب لهم الوقت فأخذت المغنية العود وجعلت تقول:
رميت من الزمان بسهم لحظ ...
فأضناني وفارقت الحبـائب
وعاندني الزمان وقل صبري ...
وإني قبل هذا كنت حاسب
فلما سمع علي بن بكار كلام المغنية خر مغشياً عليه ولم يزل في غشيته إلى أن طلع الفجر ويئس منه أبو الحسن ولما طلع النهار أفاق وطلب الذهاب إلى بيته فلم يمنعه أبو الحسن خوفاً من عاقبة أمره فاتاه غلمانه ببغلة وأركبوه وصار معه أبو الحسن إلى أن أدخله منزله فلما اطمأن في بيته حمد الله أبو الحسن على خلاصه من هذه الورطة وصار يسليه وهو لا يتمالك نفسه من شدة الغرام ثم إن أبا الحسن ودعه، فقال له علي بن بكار: يا أخي لا تقطع عني الأخبار فقال: سمعاً وطاعة ،ثم إن أبا الحسن قام من عنده وأتى إلى دكانه وفتحهافما جلس غير قليل حتى أقبلت إليه الجارية وسلمت فرد عليها السلام ونظر إليها فوجدها خافقة القلب يظهر عليها أثر الكآبة، فقال لها أهلاً وسهلاً كيف حال شمس النهار؟ فقالت: سوف أخبرك بحالها ، كيف حال علي بن بكار فأخبرها أبو الحسن بجميع ما كان من أمره فتأسفت وتأوهت وتعجبت من ذلك الأمر ثم قالت: إن حال سيدتي اعجب من ذلك ن لما توجهتم رجعت وقلبي يخفق عليكم وماصدقت بنجاتكم فلما رجعت وجدت سيتي مطروحة في القبة، لا تتكلم ولا ترد على احد وامير المؤمنين جالس عند رأسها لا يجد من يخبره بخبرها ولم يعلم ما بها ولم تزل في غشيتها إلى نصف الليل ثم أفاقت، فقال لها أمير المؤمنين: ما الذي أصابك يا شمس النهار؟ وما الذي اعتراك في هذه الليلة؟ فلما سمعت شمس النهار كلام الخليفة قبلت أقدامه وقالت له: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك إنه خامرني خلط، فأضرم النار في جسدي فوقعت مغشياً علي من شدة ما بي ولا اعلم كيف كان حالي، فقال لها الخليفة: ما الذي استعملتيه في نهارك؟ قالت: أفطرت على شيء لم آكله قط ثم أظهرت القوة واستدعيت بشيء من الشراب فشربته وسألت أمير المؤمنين أن يعود إلى انشراحه فعاد إلى الجلوس في القبة فلما جئت إليها سألتني بما فعلت معكما وأخبرتها بما أنشده علي بن بكار فسكتت، ثم إن أمير المؤمنين جلس وأمر الجارية بالغناء فأنشدت هذين البيتين :-
ولم يصف لي شيء من العيش بعدكم ...
فياليت شعري كيف حالكم بـعـدي
يحق لدمعي أن يكون مـن الـدمـا ...
إذا كنتم تبكون دمعاً على بـعـدي
فلما سمعت هذا الشعر وقعت مغشياً عليها. فأمسكت يدها ورششت ماء الورد على وجهها فأفاقت، فقلت لها: يا سيدتي لا تهتكي نفسك ومن يحويه قصرك بحياة محبوبك عليك أن تصبري، فقالت: هل في الأمر أكثر من الموت؟ فأنا أطلبه لأن فيه راحتي، فبينما نحن في هذا القول إذ غنت جارية بقول الشاعر:
وقالوا لعل الصبر يعقب راحة ...
فقلت وأين الصبر بعد فراقه
وقد أكيد الميثاق بيني وبـينـه ...
نقطع حبال الصبر عند عناقه
فلما فرغت من الشعر وقعت مغشياً عليها فنظرها الخليفة فأتى مسرعاً إليها وأمر برفع الشراب وأن تعود كل جارية إلى مقصورتها وأقام عندها باقي ليلته إلى أن أصبح الصباح فاستدعى الأطباء وأمرهم بمعالجتها ولم يعلم بما هي فيه من العشق والغرام وأقمت عندها حتى ظننت أنها قد انصلح حالها وهذا الذي عاقبي عن المجيء إليكما وقد خلقت عندها جماعة من خواصها لما أمرتني بالمسير إليكما لآخذ خبر علي بن بكار واعود إليها. فلما سمع أبو الحسن كلامها تعجب وقال لها: والله أخبرتك بجميع ما كان من أمره فعودي إلى سيدتك وسلمي عليها وحثيها على الصبر وقولي لها اكتمي السر وأخبريها أني عرفت امرها وهو امر صعب يحتاج إلى التدبير فشكرته الجارية ثم ودعته وانصرفت إلى سيدتها. هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر أبي الحسن فإنه لم يزل في دكانه إلى آخر النهار فلما مضى النهار قام وقفل دكانه وأتى إلى دار علي بن بكار فدق الباب فخرج له بعض غلمانه وأدخله فلما دخل عليه تبسم واستبشر بقدومه وقال له: يا أبا الحسن اوحشتني لتخلفك عني في هذا اليوم وروحي متعلقة بك باقي عمري، فقال له أبو الحسن: دع هذا الكلام فلو أمكن فداءك كنت أفديك بروحي وفي هذا اليوم جاءت جارية شمس النهار وأخبرتني أنه ما اعاقها عن المجيء إلا جلوس الخليفة عند سيدتها وأخبرتني بما كان من امر سيدتها وحكى له جميع ما سمعه من الجارية فتأسف علي بن بكار غاية الأسف وبكى ثم التفت إلى أبي الحسن وقال له: بالله أن تساعدني على ما بليت به وأخبرني ماذا تكون الحيلة؟ وإني أسألك من فضلك المبيت عندي في هذه الليلة لأستانس بك، فامتثل أبو الحسن أمره واجابه إلى المبيت عنده، وباتا يتحدثان في تلك الليلة، ثم إن علي بن بكار بكى وأرسل العبرات وأنشد هذه الأبيات:
غفرت بسيف اللحظ ذمة مغفري ...
وفرت برمح القد درع تصبري
وجعلت لنا من تحت مسكة خالها ...
كافور فجر شق ليل العنبـري
فزعت فضرست العقيق بلؤلـؤ ...
سكنت فرائده غدير الـسـكـر
وتنهدت جزعاً فأثـر كـفـهـا ...
في صدرها فنظرت ما لم أنظر
أقلام مرجان كتبين تـعـتـبـر ...
بصحيفة البلور خمسة أسطـر
يا حامل السيف الصقيل إذا رنت ...
إياك ضربة جفنها المتكـسـر
وتوق يا رب القناة الطـعـن إن ...
حملت عليك من القوم بأسمـر
فلما فرغ علي بن بكار من شعره صرخ صرخة عظيمة ووقع مغشياً عليه فظن أبو الحسن أن روحه خرجي من جسده ولم يزل في غشيته حتى طلع النهار فأفاق وتحدث مع أبي الحسن ولم يزل أبو الحسن جالساً عند علي بن بكار إلى صحوة النهار. ثم انصرف من عنده وجاء إلى دكانه وفتحها وإذا بالجارية جاءته ووقفت عنده، فلما نظر إليها أومأت إليه بالسلام فرد عليها السلام وبلغته سلام سيدتها وقالت له: كيف حال علي بن بكار؟ فقال لها: يا جارية لا تسألي عن حاله وما هو فيه من شدة الغرام فإنه لا ينام الليل ولا يستريح النهار وقد أنحله السهر وغلب عليه الضجر وصار في حال لا يسر حبيب فقالت له: إن سيدتي تسلم عليك وقد كتبت له ورقة وهي في حال أعظم من حاله وقد سلمتني الورقة، وقالت: لا تأتيني إلا بجوابها وافعلي ما أمرتك به وها هي الورقة معي فهل لك أن تسير معي إلى علي بن بكار، وتأخذ منه الجواب؟ فقال لها أبو الحسن: سمعاً وطاعة، ثم قفل الدكان وأخذ معه الجارية وذهب بها إلى مكان غير الذي جاء منه ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى دار علي بن بكار، ثم أوقف الجارية على الباب ودخل.
إلى اللقاء فموعدنا الجزء الثالث
رابط الجزء الأول من حكاية علي بن بكار مع شمس النهار من هنا
شكرا لمروركم فقد ازدانت مدونتنا بمروركم إشراقا وجمالا
فلا تبخلوا علينا بالمتابعة و التعليق و مشاركة المقال ان اعجبكم