حكاية هارون الرشيد مع محمد علي الجوهري ( الجزء الأول).
كان يا مكان في سالف العصر والزمان ، يحكى أن الخليفة هارون الرشيد قلق ليلة من الليالي قلقاً شديداً فاستدعى بوزيره جعفر البرمكي وقال له: صدري ضيق ومرادي في هذه الليلة أن أتفرج في شوارع بغداد ، وأنظر في مصالح العباد بشرط أن نتنكر بزي التجار حتى لا يعرفنا أحد من الناس، فقال له الوزير: سمعاً وطاعة. ثم قاموا في الوقت والساعة ونزعوا ما عليهم من ثياب الافتخار ولبسوا ثياب التجار وكانوا ثلاثة: الخليفة وجعفر ومسرور السياف وتمشوا من مكان إلى مكان حتى وصلوا إلى دجلة فرأوا شيخاً قاعداً في زورق فتقدموا إليه وسلموا عليه وقالوا له: يا شيخ إنا نشتهي من فضلك وإحسانك أن تفرجينا في مركبك هذا وخذ هذا الدينار في أجرتك، قال لهم: من ذا الذي يقدر على الفرجة والخليفة هارون الرشيد ينزل في كل ليلة بحر الدجلة في زورق صغير ومعه مناد ينادي ويقول: يا معشر الناس كافة من كبير وصغير وخاص وعام وصبي وغلام كل من نزل في مركب وشق الدجلة ضربت عنقه أو شنقته على ساري مركبه وكأنكم به في هذه الساعة وزورقه مقبل، فقال الخليفة وجعفر: يا شيخ خذ هذين الدينارين وادخل بنا قبة من هذه القباب إلى أن يروح زورق الخليفة، فقال لهم الشيخ: هاتوا الذهب والتوكل على الله تعالى، فأخذ الذهب وعوم بهم قليلاً وإذا بالزورق قد أقبل من كبد الدجلة وفيه الشموع والمشاعل مضيئة، فقال لهم الشيخ: أما قلت لكم أن الخليفة يشق في كل ليلة، ثم إن الشيخ صار يقول: يا ستار لا تكشف الأستار ودخل بهم في قبة ووضع عليهم مئزر أسود وصاروا يتفرجون من تحت المئزر فرأوا في مقدم الزورق رجلاً بيده مشعل من الذهب الأحمر وهو يشعل فيه بالعود القاقلي وعلى ذلك الرجل قباء من الأطلس الأحمر وعلى كتفه مزركش أصفر وإلى رأسه شاش موصلي وعلى كتفه الآخر محلاة من الحرير الأخضر ملآنة بالعود القاقلي يوقد منها المشعل عوضاً عن الحطب ورأوا رجلاً آخر في الزورق لابساً مثل لبسه وبيده مشعل مثل المشعل الذي معه ورأوا في الزورق مائتي مملوك واقفين يميناً ويساراً ووجدوا كرسياً من الذهب الأحمر منصوباً عليه شاب حسن جالس كالقمر وعليه خلعة سوداء بطراز من الذهب الأصفر وبين يديه انسان كانه الوزير جعفر وعلى رأسه خادم واقف كأنه مسرور وبيده سيف مشهور ورأوا عشرين نديماً، فلما رأى الخليفة ذلك قال: يا جعفر. قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: لعل هذا واحد من أولادي إما المأمون وإما الأمين، ثم تأمل الشاب وهو جالس على الكرسي فرآه كامل الحسن والجمال والقد والإعتدال، فلما تأمله التفت إلى الوزير وقال: يا وزير قال: لبيك قال: والله إن هذا الجالس لم يترك شيئاً من شكل الخلافة والذي بين يديه كأنك أنت يا جعفر والخادم الذي وقف على رأسه كأنه مسرور وهؤلاء الندماء كأنهم ندمائي وقد حار عقلي من هذا الأمر يا جعفر، فقال له جعفر: وأنا والله يا أمير المؤمنين، ثم ذهب الزورق حتى غاب عن العين، فعند ذلك خرج الشيخ بزورقه وقال: الحمد لله على السلامة حيث لم يصادفنا أحد فقال الخليفة: يا شيخ وهل الخليفة في كل ليلة ينزل دجلة؟ قال: نعم يا سيدي وله على هذه الحالة سنة كاملة. فقال الخليفة: يا شيخ نشتهي من فضلك أن تقف لنا هنا الليلة القابلة ونحن نعطيك خمسة دنانير ذهباً فإننا قوم غرباء وقصدنا النزهة ونحن نازلون في الفندق فقال له الشيخ: حباً وكرامة، ثم إن الخليفة وجعفراً ومسروراً توجهوا من عند الشيخ إلى القصر وقلعوا ما كان عليهم من لبس التجار ولبسوا ثياب الملك وجلس كل واحد في مرتبته ودخل الأمراء والوزراء والحجاب والبواب وانعقد المجلس بالناس، فلما انقضى المجلس وتفرقت أجناس الناس وذهب كل واحد إلى حال سبيله قال الخليفة هارون الرشيد: يا جعفر انهض بنا للفرجة على الخليفة الثاني، فضحك جعفر ومسرور ولبسوا لبس التجار وخرجوا يشقون وهم في غاية الإنشراح وكان خروجهم من باب السر. فلما وصلوا إلى الدجلة وجدوا الشيخ صاحب الزورق قاعداً لهم في الإنتظار فنزلوا عنده في المركب فما استقر بهم الجلوس مع الشيخ ساعة حتى جاء زورق الخليفة الثاني وأقبل عليهم فالتفتوا إليه وأمعنوا فيه النظر فوجدوا فيه مائتي مملوك غير المماليك الأول والمشاعلية ينادون على عادتهم، فقال الخليفة: يا وزير هذا شيء لو سمعت به ما كنت أصدقه ولكنني رأيت ذلك عياناً، ثم إن الخليفة قال لصاحب الزورق الذي هم فيه: خذ يا شيخ هذه العشرة دنانير وسر بنا في محاذاتهم فإنهم في النور ونحن في الظلام فننظرهم ونتفرج عليهم وهم لا ينظروننا، فأخذ الشيخ العشرة دنانير ومشى بزورقه في محاذاتهم وساروا في ظلام زورقهم ، وما زالوا سائرين في ظلام الزورق إلى البساتين.فلما وصلوا إلى البستان رأوا زربية فرسي عليها الزورق وإذا بغلمان واقفين ومعهم بغلة مسرجة بلجمة فطلع الخليفة الثاني وركب البغلة وسار بين الندماء وصاحت المشاعلية واشتغلت الحاشية بشأن الخليفة الثاني هارون الرشيد هو وجعفر ومسرور إلى البر وشقوا بين المماليك وساروا قدامهم فلاحت من المشاعلية التفاتة فرأوا ثلاثة أشخاص لبسهم لباس تجار وهم غرباء الديار فأنكروا عليهم وغمزوا وأحضروهم بين يدي الخليفة الثاني، فلما نظرهم قال لهم: كيف وصلتم إلى هذا المكان وما الذي أتى بكم في هذا الوقت؟ قالوا: يا مولانا نحن قوم من التجار غرباء الديار وقدمنا في هذا اليوم وخرجنا نتمشى الليلة وإذا بكم قد أقبلتم فجاء هؤلاء وقبضوا علينا وأوقفونا بين يديك وهذا خبرنا. فقال الخليفة الثاني: لا بأس عليكم لأنكم قوم غرباء ولو كنتم من بغداد لضربت أعناقكم، ثم التفت إلى وزيره وقال: خذ هؤلاء صحبتك فإنهم ضيوفنا في هذه الليلة فقال: سمعاً وطاعة لك يا مولانا، ثم ساروا معه إلى أن وصلوا إلى قصر عال عظيم الشأن محكم البنيان ما حواه سلطان قام من التراب وتعلق بأكتاف السحاب وبابه من خشب الصاج مرصع بالذهب الوهاج يصل منه الداخل إلى إيوان بفسقية وشاذروان وبسط ومخدات من الديباج ونمارق وطاولات، وهناك ستر مسبول وفرش يذهل العقول ويعجز من يقول وعلى الباب مكتوب هذان البيتان:
قصر عليه تـحـية وسـلام **
خلعت عليه جمالـهـا الأيام .
فيه العجائب والغرائب نوعت **
فتحيرت في فنهـا الأقـلام .
شكرا لمروركم فقد ازدانت مدونتنا بمروركم إشراقا وجمالا
فلا تبخلوا علينا بالمتابعة و التعليق و مشاركة المقال ان اعجبكم